كثيراً ما تنبثق في أذهاننا فكرة عارضة نراها، لوقت قصير، أكثر أفكارنا قوّة، وأشدها تعبيراً عن سلوك بني آدم، لكنها سريعاً ما تغيب مثلما ولدت فننساها وننسى شغفنا بها، غير أن الفكرة التي انبثقت في ذهن أحمد عبد الهادي، كاتب القصة القصيرة، كانت تتردد بوضوح، تعاوده كلما خلا مع نفسه حتى تجاوزت الوقت الذي تستغرقه، عادة، مثيلاتها. يُنصت لها كلما وقف أمام النافذة في ساعات الصباح الأولى، ينظر للشارع الخالي وأبواب المنازل المغلقة، ويرى الأشجار العالية تتحرك، كانت قد رسخت في ذهنه وهو يشاهد دفاع الحيوانات المستميت عن بنات جنسها في برامج عالم الحيوان، يمكننا أن نؤكد أن أحمد عبد الهادي، كاتب القصة القصيرة، ليس من المولعين بمشاهدة التلفزيون، غالباً ما تنفرّه الأخبار بوقائعها المعتمة وتجهده المسلسلات الفارغة المملّة وبرامج التسلية والإعلانات، بل هو من متابعي برامج الحيوان، يمكن أن نعدّها ولعه الوحيد إلى جانب كتابة القصص، يعرف أوقات عرضها ويلاحقها بشغف من قناة إلى أخرى، في معظم الأحيان يوقف اللقطات على نظرات الأسف التي ترتسم على عيون الحيوانات وهي تلتفت لوداع أحدها وقد عثرت أقدامه بعد فرار طويل، تراه للمرّة الأخيرة وقد نهشته الحيوانات المفترسة. تؤلمه عيون الغزلان أكثر من سواها فيُبقي لقطاتها القريبة ثابتة، يتأملها طويلاً ثم يُطل من النافذة، يتوجّه بعدها إلى المطبخ ليصبَّ كوباً من الشاي، ثم يعود بخطوات متمهلة إلى التلفزيون كما لو كان يطمئن على نظرة الحيوان الآسفة. يومها سمع الفكرة تتردد، لا يتذكر إن كان واقفاً أمام النافذة أو منشغلاً بكوب الشاي أو مواصلاً خطواته بين المطبخ وغرفة التلفزيون عندما سمعها بوضوح، ارتجفت يده، ذلك ما لا يستطيع نكرانه، وهو يسمعها تردد بيقين صافٍ بأن الانسان هو الكائن الوحيد الذي يخون أبناء جنسه، واستغرب كيف غابت الخيانة عن أذهان علماء الاجتماع وهي الصفة الأهم، بتصوّره، والعلامة الناصعة التي ميّزت الإنسان منذ وطأت قدماه على الأرض، فإذا كان لابن آدم أن يتفاخر يوما بين سائر المخلوقات فسيفخر لا بكونه كائن العقل أو اللغة، كما يُحكى عادةً، بل بكونه الكائن الوحيد الذي قُدّر له أن يخون مرّة بعد مرّة حتى أصبح كائن الخيانة بامتياز.
يمكنه أن يتحدّث عن الفكرة وقد ولّدت لديه رغبةً بالكتابة عن الخيانة، الموضوع الذي لم يشغله من قبل، ربما كتب عنه صفحات قليلة لم تعنِ له وقتها شيئاً فنسيها وانشغل بأشياء أخرى، لكنه بدأ الكتابة يقوده احساسٌ بغرابة الفكرة وظلاميتها، وعلى الرغم من اندفاعه لم يخلُ الأمر من منغصات غالباً ما تعكّر مزاج كتّاب القصص وتغيّر صفو الكتابة لديهم، فمع كلِّ جملة يجد نفسه يغرق في تفاصيل صغيرة لم تكن تستهويه فيمزّق ما كتب ويعاود الانصات لعلّه يبدأ من جديد، يكون التلفزيون مطفأً حينها والستارة مسدلة، لكنه يرى عين الحيوان واضحة أمامه، وقد تصاعد شعور الأسف فيها، ويرى نفسه يتحرّك باتجاهها، يقترب منها، ويسمع صوت الأشجار العالية. في تلك اللحظة سمع رنين الهاتف، يتذكره كما لو رنَّ قبل وقت قصير، سار باتجاهه حتى وجد الجهاز في المطبخ حيث تركه في الصباح، انقطع الرنين بعض الوقت ثم عاد من جديد، اقترب أكثر ونظر إلى شاشة الجهاز المرمي قرب الصحون النظيفة الفارغة محاولاً معرفة اسم المتصل لكن الشاشة لم تكن تحتوي غير رقم مبهم مما زاد من قلقه فلم يكن من المعتاد أن يرنّ هاتفه في ليل أو نهار، ناهيك عن تكرار الاتصال مرّة بعد أخرى، كان قلقاً، ذلك ما لا يستطيع نكرانه أيضاً، فلطالما تملّكه القلق مع كلِّ رقم غريب. مع رنّة الهاتف للمرّة الثالثة حسم أمره وأجاب، كان الصوت غريباً كما توقعه، لم تكف كلمة واحدة للتعرف على صاحبه.
ـ السيد أحمد عبد الهادي، كاتب القصة القصيرة؟
طمأنته اللغة الرسمية قليلاً، أعادته إلى نفسه، فأجاب:
ـ نعم، تفضل.
ـ أحمد، ألم تعرفني؟
هتف صاحب الصوت بألفة فأبعد أحمد عبد الهادي الجهاز عن أذنه ثم أعاده ليقول:
ـ عفواً، لم أعرفك بعد.
ـ أنا علي
ـ مَنْ؟
ـ علي ادريس، زميل الدراسة.
يمكن القول أن أحمد عبد الهادي، كاتب القصة القصيرة، عاش في تلك اللحظة أشدّ ما يخشاه في شهوره الأخيرة: أن تكون ذاكرته موضع اختبار فجائي.
ـ أهلاً، أهلاً سيد ادريس.
قال مدارياً حرجه.
ـ لا لا، كل شي إلا هذا، هل نسيتني؟..
تساءل صاحب الصوت بإلحاح، فلم يكن أمام أحمد عبد الهادي إلا أن يعيد ترحيبه كأنه لم يسمع شيئاً.
ـ أبحث عنك منذ شهور، قال صاحب الصوت، سألت العديد من أصدقائنا القدامى، ولم يوصلني إليك سوى المجلة.
ـ المجلة؟
ـ نعم المجلة، أعرف ولعك بكتابة القصص، وأقرأ لك أحياناً، وجدت واحدة من قصصك القصيرة منشورة فيها، كنت يومها عند طبيب الأسنان، فقلت مع نفسي أنه أول الطريق..
ـ .....
ـ لا تستغرب أستاذ أحمد، كانت صالة الانتظار هادئة فقلت أتحايل قليلاً على الألم، اتصلت بهم على الفور، طلبت عنوانك فاعتذروا، وحينما حدّثتهم عن زمالة الدراسة اكتفوا بأن أعطوني رقم هاتفك.
ـ أشكرك والله، كلّفت نفسك..
ـ أبداً، كنت قبل الاتصال أفكر بأن أزورك في بيتك أو مكتبك لكنني ما أن سمعت صوتك حتى تمنيت أن تزورني أنت، ستكون مناسبة جميلة خصوصاً أنك لم تزر المدينة منذ غادرتها إلا مرّات قليلة متباعدة..
وهكذا بعد حوارات قصيرة مشابهة أنهى علي ادريس اتصاله محققاً أولى رغباته بسماع صوت زميل الدراسة والتواصل معه، كان شعوره بالسعادة قد أنساه ألم أسنانه فقد وضع قدمه على أول الطريق، أما أحمد عبد الهادي فلم يغادر قلقه لا بسبب ذاكرته التي لم تعنه على معرفة زميل الدراسة القديم بل لأن جملة الزميل عن كونه لم يزر المدينة إلا مراتٍ منذ غادرها بدت له أكثر من جملة عابرة. شغله الأمر نهاراً أو أكثر قبل أن يعاود الاهتمام ببرامج الحيوان وبمحاولة الكتابة، وإن بإيقاع أبطأ، كان ينسى نفسه ويغادر قلقه وهو يتقدّم من مقطع إلى آخر، رنَّ الهاتف من جديد فاستعاد على الفور الجملة التي أقلقته وتمنى لو كان بمقدوره أن يسأل زميله عنها، لكنه لم يسأل وترك الاتصال يسير على هوى زميله وهو يحدّثه بالتفصيل عن المقالب القديمة والسفرات والمدرّسين، كما يتذكر الطلبة، يزداد حبوره ويعلو صوته وهو يتحدّث عنهم، لم يكن يفلت منه اسم من أسمائهم حتى تصوّره قد دوّن ذلك كله وهو الآن يقرأ من أوراقه، لكلِّ صف ورقة، ولكلِّ سفرة وكلِّ مقلب، فجأة وضع الأوراق جانباً وعاد للحديث عن رغبته بلقاء أحمد عبد الهادي، قال، بعدها، بجملة حاسمة:
ـ كلُّ شيء مهيءٌ يا صديقي.
لم يفهم أحمد عبد الهادي، كاتب القصة القصيرة، الجملة، فسأل زميله بصوت خفيض:
ـ ماذا تعني؟
ـ التكسي الذي سيقلّك من أمام محطة القطار، والفندق، ولأني أعرف أن وقت الكتّاب ثمين فقد حجزت لك يوماً واحداً قابلاً للتمديد.
ـ هذا كثير..
ـ أبداً أبداً، سعادتي أن نلتقي، نتجول قليلاً ونركب الزورق، طالما كنتَ تُحب ركوب الزوارق.
الجملة الأخيرة شغلت أحمد عبد الهادي أكثر،
أربكته،
أخذ يسأل نفسه إن كان قد أحب ركوب الزوارق يوماً.
بعد يومين كان في محطة القطار مستجيباً لدعوة زميله، الدعوة التي سمعها تتكرر فور أن أغلق الهاتف، وقد أعادت في ذهنه نداء المدينة البعيدة، وصل في تمام الثانية بعد ظهر الخميس، أحب أن يقضي ساعة في المحطة قبل انطلاق القطار، يحجز التذكرة ويتجوّل قليلاً، يمكن ان يتناول كوباً من القهوة التركية في كافتيريا المحطة، من أجل رائحتها التي تكمّل أسفاره. ما استغرب له حقاً هو موعد السفر، فأن يحجز له زميله في الفندق يوم الجمعة يعني أن يسافر ظهر الخميس كما يُحب دائماً، الخميس بالنسبة له هو اليوم المفضّل للسفر، وأن يهيء تكسياً ينتظره أمام المحطة يعني أن يدعوه للسفر بالقطار، وهو وسيلة السفر التي تسحره، كان اليوم والوسيلة كافيين ليعاود قلقه وهو يراقب حركة المسافرين القليلين عبر زجاج الكافتيريا، مفكّراً بزميل الدراسة الذي لم يتذكّره حتى الآن، وبغرابة أن يعرف عنه تفاصيل صغيرة لم يعرفها أحد غيره. في الساعة الثالثة تحرّك القطار بعد أن ترددت أصداء صافرته في المحطة، القى أحمد عبد الهادي رأسه على حافة الكرسي وأغمض عينيه. لو كنا نكتب قصة قصيرة بدورنا عن كاتب قصة يسافر بالقطار لمدينته التي لم يزرها منذ وقت بعيد لتوجب علينا أن نقول إنه يعيش واحداً من أوقات سعادته، أن يسافر يوم الخميس في عربة قطار، وأن يسمع أصداء الصافرة تتردد من حوله، تتردد ولا تذوب.
حينما وقفت سيارة التكسي أمام الفندق فكر أحمد عبد الهادي أن يرفع رأسه وينظر إلى عيني السائق في المرآة المستطيلة، يرى الحلقتين المعتمتين تحت عينينه ويدعوه للعودة إلى المحطة، لكنه لسبب ما نزل حاملاً حقيبته. كان استقبال الفندق ضيقاً، ثلاثة أمتار أو ثلاثة ونصف، منضدة خشب صغيرة تحت سُلّم خلفها عُلّقت لوحة المفاتيح، ستة مفاتيح في صفين، دقَّ بيده على المنضدة وانتظر بعض الوقت، سيستغرب كلام زميله وهو يحدّثه معتذراً بأنه لم يجد فندقاً غيره، يسأله إن كانت باقي الفنادق محجوزة، ليس في أي منها غرفة شاغرة، لكنه يصمت، ينظر نحو النهر ويقول بأن المدينة لم تعد فيها فنادق كما كانت، عليك ان تبحث طويلاً للعثور على واحد ما زال يستقبل الزوار. في الغرفة عاد للتفكير بقصته، من النقطة التي توقف عندها، أخذته القصة لفكرته ورأى نظرة الأسف في عين الغزال، سحب الستارة التي غيّرت أشعة الشمس لونها، وفتح النافذة المطلّة على الشارع الخالي، لم يلحظ خلو العالم من حوله ولم يسأل زميله صباح الجمعة وهما يتمشيان على الشاطيء قبل أن يركبا الزورق ويمضيا في النهر، كانت المدينة وهو يراها من نافذة الفندق تشبه ذكرى بعيدة، بلا بشر ولا تفاصيل، حتى الناس الذين التقاهم كانوا كمن يؤدي أدواراً قصيرة عابرة، يدخلون من جهة ويغيبون في أخرى ويظلُّ واقفاً أمام النافذة يفكّر أن ينزل ليتمشى قليلاً، ربما يحلق شعره عند أول حلاق يصادفه، يجلس بعدها في أقرب كافتيريا، يتناول كوب قهوة من أجل الرائحة التي يُحب ويعود إلى الغرفة بانتظار لقاء الغد. فرش منشفته على الوسادة وتمدّد على السرير، أتته أصوات الأشجار العالية تحرّكها الريح، وعاود التفكير بالخيانة، محدّثاً نفسه بأنها الفكرة التي قطع طريقاً طويلاً للوصول إليها.